سورة مريم - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


{كهيعص} بإمالة الهاءِ والياء وإظهار الدال، وقرئ بفتح الهاء وإمالةِ الياء وبتفخيمهما وبإخفاء النونِ قبل الصادِ لتقاربهما، وقد سلف أن ما لا تكون من هذه الفواتح مفردةً ولا موازِنةً لمفرد فطريقُ التلفظ بها الحكايةُ فقط ساكنةُ الأعجاز على الوقف، سواءٌ جعلت أسماءً للسور أو مسرودةً على نمط التعديد، وإن لزمها التقاءُ الساكنين لكون مغتفراً في باب الوقف قطعاً فحق هذه الفاتحة الكريمةِ أن يوقف عليها جرياً على الأصل، وقرئ بإدغام الدال فيما بعدها لتقاربهما في المخرج، فإن جُعلت اسماً للسورة على ما عليه إطباقُ الأكثر فمحلُّه الرفعُ، إما على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ والتقديرُ هذا كهيعص أي مسمًّى به وإنما صحت الإشارةُ إليه مع عدم جرَيانِ ذكرِه لأنه باعتبار كونِه على جناح الذكر صار في حكم الحاضِر المشاهَدِ، كما يقال: هذا ما اشترى فلان، أو على أنه مبتدأٌ خبرُه: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ} أي المسمّى به ذكرُ رحمة الخ، فإن ذكرَها لمّا كان مطلَعَ السورةِ الكريمة ومعظمَ ما انطوت هي عليه جُعلت كأنها نفسُ ذكرها، والأولُ هو الأولى لأن ما يجعل عنواناً للموضوع حقُّه أن يكون معلومَ الانتساب إليه عند المخاطبِ، وإذ لا علمَ بالتسمية من قبل فحقُّها الإخبارُ بها كما في الوجه الأول، وإن جُعلت مسرودةً على نمط التعديدِ حسبما جنَح إليه أهلُ التحقيقِ فذكرُ إلخ خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ هو ما ينبىء عنه تعديدُ الحروف كأنه قيل: المؤلَّفُ من جنس هذه الحروف المبسوطةِ مراداً به السورةُ ذكرُ الرحمة الخ، وقيل: هو مبتدأٌ قد حُذف خبرُه أي فيما يتلى عليك ذكرُها، وقرئ: {ذكَّر رحمةَ ربك} على صيغة الماضي من التذكير أي هذا المتلوُّ ذكّرها، وقرئ: {اذكُرْ} على صيغة الأمر، والتعرضُ لوصف الربوبية المنْبئةِ عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام للإيذان بأن تنزيلَ السورة عليه عليه الصلاة والسلام تكميلٌ له عليه السلام، وقوله تعالى: {عَبْدِهِ} مفعولٌ لرحمة ربك على أنها مفعولٌ لما أضيف إليها، وقيل: للذكر على أنه مصدرٌ أضيف إلى فاعله على الاتساع، ومعنى ذكرِ الرحمةِ بلوغُها وإصابتُها، كما يقال: ذكرني معروفُ فلان أي بلغني، وقوله عز وعلا: {زَكَرِيَّا} بدل منه أو عطف بيان له {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً} ظرفٌ لرحمة ربك، وقيل: لذِكرُ على أنه مضافٌ إلى فاعله اتساعاً لا على الوجه الأولِ لفساد المعنى، وقيل: هو بدلُ اشتمالٍ من زكريا كما في قوله: {واذكر فِى الكتاب مَرْيَمَ إِذِ انتبذت} ولقد راعى عليه الصلاة والسلام حسنَ الأدب في إخفاء دعائِه، فإنه مع كونه بالنسبة إليه عز وجل كالجهر أدخلُ في الإخلاص وأبعدُ من الرياء وأقربُ إلى الخلاص عن لائمة الناس على طلب الولدِ لتوقّفه مبادىءَ لا يليق به تعاطيها في أوان الكِبَر والشيخوخة وعن غائلة مواليه الذين كان يخافهم، وقيل: كان ذلك من عليه السلام لضَعف الهرم، قالوا: كان سنُّه حينئذ ستين، وقيل: خمساً وستين، وقيل: سبعين، وقيل: خمساً وسبعين، وقيل: أكثرَ منها كما مر في سورة آل عِمرانَ.
{قَالَ} جملةٌ مفسِّرةٌ لنادى لا محلَّ لها من الإعراب {رَبّ إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى} إسنادُ الوهن إلى العظم لِما أنه عمادُ البدن ودِعامُ الجسد فإذا أصابه الضَّعفُ والرخاوة أصاب كلَّه، أو لأنه أشدُّ أجزائه صلابةً وقِواماً وأقلُّها تأثراً من العلل فإذا وهَن كان ما وراءه أوهنَ، وإفرادُه للقصد إلى الجنس المنْبىءِ عن شمول الوهْنِ لكل فردٍ من أفراده، ومنّي متعلقٌ بمحذوف هو حالٌ من العظم، وقرئ: {وهِن} بكسر الهاء وبضمها أيضاً، وتأكيدُ الجملة لإبراز كمال الاعتناءِ بتحقيق مضمونها {واشتعل الرأس شَيْباً} شبّه عليه الصلاة والسلام الشيبَ في البياض والإنارة بشُواظ النار، وانتشارَه في الشعر وفُشوَّه فيه وأخذَه منه كلَّ مأخذ باشتعالها، ثم أخرجه مُخرجَ الاستعارةِ ثم أَسند الاشتعالَ إلى محل الشعرِ ومنبِتِه، وأخرجه مُخرج التمييز وأطلق الرأسَ اكتفاءً بما قيّد به العظمَ، وفيه من فنون البلاغة وكمالِ الجزالةِ ما لا يخفى، حيث كان الأصلُ اشتعل شيبُ رأسي فأسند الاشتعالَ إلى الرأس كما ذُكر لإفادة شمولِه لكلها، فإن وِزانَه بالنسبة إلى الأصل وزانُ اشتعل بيتُه ناراً بالنسبة إلى اشتعل النارُ في بيته، ولزيادة تقريرِه بالإجمال أولاً والتفصيلِ ثانياً ولمزيد تفخيمِه بالتنكير، وقرئ بإدغام السينِ في الشين {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً} أي ولم أكن بدعائي إياك خائباً في وقت من أوقات هذا العمُر الطويلِ، بل كلما دعوتُك استجبتَ لي، والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها أو حالٌ من ضمير المتكلم إذِ المعنى واشتعل الرأسُ شيباً، وهذا توسلٌ منه عليه السلام بما سلف منه من الاستجابة عند كلِّ دعوة إثرَ تمهيدِ ما يستدعي الرحمةَ ويستجلب الرأفةَ من كِبَر السّنِّ وضَعفِ الحال، فإنه تعالى بعد ما عوّد عبدَه بالإجابة دهراً طويلاً لا يكاد يُخيّبه أبداً لا سيما عند اضطرارِه وشدة افتقارِه، والتعرضُ في الموضوعين لوصف الربوبيةِ المنْبئة عن إضافة ما فيه صلاحُ المربوبِ، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لا سيما توسيطُه بين كان وخبرها لتحريك سلسلةِ الإجابةِ بالمبالغة في التضرّع، ولذلك قيل: إذا أراد العبدُ أن يُستجابَ له دعاؤُه فليدعُ الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاتِه.


{وَإِنّي خِفْتُ الموالى} عطف على قوله تعالى: {إِنّى وَهَنَ العظم} مترتبٌ مضمونُه على مضمونه فإنه ضَعفَ القُوى وكِبَر السنِّ من مبادىء خوفه عليه السلام مِمّن يلي أمرَه بعد موته، ومواليه بنو عمه وكانوا أشرارَ بني إسرائيلَ فخاف أن لا يُحسِنوا خلافتَه في أمته ويبدّلوا عليهم دينَهم، وقوله: {مِن وَرَائِى} أي بعد موتي متعلقٌ بمحذوف ينساق إليه الذهنُ، أي فِعلَ الموالي من بعدي أو جَوْرَ الموالي وقد قرئ كذلك، أو بما في الموالي من معنى الوِلاية، أي خِفتُ الذين يلون الأمرَ من ورائي لا بخِفْتُ لفساد المعنى، وقرئ: {ورايَ} بالقصر وفتح الياء، وقرئ: {خفّت الموالي} من ورائي أي قلوا وعجَزوا عن القيام بأمور الدين بعدي، أو خفّت الموالي القادرون على إقامة مراسمِ الملة ومصالحِ الأمة من خفَّ القومُ أي ارتحلوا مسرعين أي درَجوا قُدّامي ولم يبقَ منهم من به تَقوَ واعتضادٌ، فالظرفُ حينئذ متعلقٌ بِخفّتْ {وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا} أي لا تلد من حينِ شبابها. {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ} كلا الجارّين متعلقٌ بهب لاختلاف معنييهما، فاللام صلةٌ له ومِنْ لابتداء الغاية مجازاً، وتقديمُ الأول لكون مدلولِه أهمَّ عنده ويجوز تعلّقُ الثاني بمحذوف وقع حالاً من المفعول، ولدن في الأصل ظرفٌ بمعنى أولِ غايةِ زمانٍ أو مكان أو غيرهما من الذوات، وقد مر تفصيلُه في أوائل سورة آل عمران، أي أعطِني من محض فضلِك الواسعِ وقدرتِك الباهرةِ بطريق الاختراعِ لا بواسطة الأسباب العادية {وَلِيّاً} أي ولداً من صُلبي، وتأخيرُه عن الجارَّين لإظهار كمالِ الاعتناءِ بكون الهبةِ له على ذلك الوجه البديعِ مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر، فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر تبقى النفسُ مستشرِفةً له فعند ورودِه لها يتمكن عندها فضلُ تمكنٍ، ولأن فيه نوعَ طولٍ بما بعده من الوصف فتأخيرُهما عن الكل أو توسيطُهما بين الموصوف والصفه مما لا يليق بجزالة النظمِ الكريم، والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن ما ذكرَه عليه الصلاة والسلام من كِبَر السنِّ وضَعف القُوى وعقرِ المرأة موجبٌ لانقطاع رجائِه عليه السلام عن حصول الولدِ بتوسط الأسبابِ العادية واستيهابِه على الوجه الخارِق للعادة، ولا يقدح في ذلك أن يكون هنا داعٍ آخرُ إلى الإقبال على الدعاء المذكورِ من مشاهدته عليه السلام للخوارق الظاهرةِ في حق مريمَ كما يُعرب عنه قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} الآية، وعدمُ ذكرِه هاهنا للتعويل على ذكره هناك كما أن عدمَ ذكر مقدمةِ الدعاء هناك للاكتفاء بذكره هاهنا، فإن الاكتفاءَ بما ذكر في موطن عما تُرك في موطن آخرَ من النكت التنزيلية.
وقوله تعالى: {يَرِثُنِى} صفةٌ لولياً، وقرئ: {هو} وما عطف عليه بالجزم جواباً للدعاء، أي يرثني من حيث العلمُ والدينُ والنبوةُ فإن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام لا يورِّثون المالَ، قال صلى الله عليه وسلم:
«نحن معاشرَ الأنبياءِ لا نورَث، ما تركنا صدقةٌ» وقيل: يرثني الحُبورة وكان عليه السلام حِبْراً.
{وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ} يقال: ورِثه وورِث منه لغتان، وآلُ الرجل خاصّته الذين يؤُول إليه أمرُهم للقرابة أو الصُّحبة أو الموافقة في الدين، وكانت زوجةُ زكريا أختَ أمِّ مريمَ، أي ويرث منهم الملكَ، قيل: هو يعقوبُ بنُ إسحاقَ بن إبراهيمَ عليهم الصلاة والسلام، وقال الكلبي ومقاتل: هو يعقوبُ بنُ ماثانَ أخو عمرانَ بنِ ماثان من نسل سليمانَ عليه السلام، وكان آلُ يعقوب أخوالَ يحيى بنِ زكريا، قال الكلبي: كان بنو ماثانَ رؤوسَ بني إسرائيلَ وملوكَهم، وكان زكريا رئيسَ الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولدُه حبورتَه ويرثَ من بني ماثان ملكَهم، وقرئ: {ويرث وارثَ آلِ يعقوب} على أنه حالٌ من المستكن في يرث، وقرئ: {أو يرث آل يعقوب} بالتصغير ففيه إيماءٌ إلى وراثته عليه السلام لما يرثه في حالة صِغَره، وقرئ: {وارثٌ من آل يعقوب} على أنه فاعلُ يرثني على طريقة التجريد أي يرثني به وارثٌ، وقيل: من للتبعيض إذ لم يكن كلُّ آل يعقوبَ عليه السلام أنبياءَ ولا علماءَ {واجعله رَبّ رَضِيّاً} مرضياً عندك قولاً وفعلاً، وتوسيطُ ربِّ بين مفعولي اجعَلْ للمبالغة في الاعتناء بشأن ما يستدعيه.


{يَا زَكَرِيَّا} على إرادة القولِ أي قال تعالى: {يَا زَكَرِيَّا} {إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى} لكن لا بأن يخاطِبه عليه الصلاة والسلام بذلك بالذات، بل بواسطة الملَك على أن يحكيَ له عليه الصلاة والسلام هذه العبارةَ عنه عز وجل على نهج قوله تعالى: {قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ} الآية، وقد مر تحقيقُه في سورة آلى عمران، وهذا جوابٌ لندائه عليه الصلاة والسلام ووعدٌ بإجابة دعائِه، لكن لا كما هو المتبادرُ من قوله تعالى: {فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} الخ، بل بعضاً حسبما تقتضيه المشيئةُ الإلهية المبنية على الحِكَم البالغة فإن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام وإن كانوا مستجابي الدعوةِ لكنهم ليسوا كذلك في جميع الدعواتِ، ألا يرى إلى دعوة إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام في حق أبيه وإلى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: «وسألته أن لا يُذيقَ بعضَهم بأسَ بعض فمنعنيها» وقد كان من قضائه عز وعلا أن يهبَه يحيى نبياً مرضياً ولا يرثه، فاستجيب دعاؤُه في الأول دون الثاني حيث قتل قبلَ موت أبيه عليهما الصلاة والسلام على ما هو المشهورُ، وقيل: بقي بعده برهةً فلا إشكال حينئذ، وفي تعيين اسمِه عليه الصلاة والسلام تأكيدٌ للوعد وتشريفٌ له عليه الصلاة والسلام، وفي تخصيصه به عليه السلام حسبما يُعرب عنه قوله تعالى: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} أي شريكاً له في الاسم حيث لم يُسمَّ أحدٌ قبله بيحيى مزيدُ تشريفٍ وتفخيم له عليه الصلاة والسلام فإن التسميةَ بالأسامي البديعة الممتازة عن أسماء سائرِ الناس تنويهٌ بالمسمّى لا محالة، وقيل: سميًّا شبيهاً في الفضل والكمالِ كما في قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} فإن المتشاركين في الوصف بمنزلة المتشاركين في الاسم، قالوا: لم يكن له عليه الصلاة والسلام مِثْلٌ في أنه لم يعصِ الله تعالى ولم يهُمَّ بمعصية قط وأنه ولد من شيخ فانٍ وعجوزٍ عاقر وأنه كان حَصوراً، فيكون هذا إجمالاً لما نزل بعده من قوله تعالى: {مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله وَسَيّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيّا مّنَ الصالحين} والأظهرُ أنه اسمٌ أعجميٌّ وإن كان عربياً فهو منقول عن الفعل كيعمَرَ ويَعيشَ، قيل: سمي به لأنه حيِيَ به رحِمُ أمِّه أو حيِيَ دينُ الله تعالى بدعوته.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8